يتداول كثيراً بين ألسنة الناس أنّ الإبداعَ لا يولد إلا بعدَ مخاض عسير من المعاناة حينها يكون متقوقعاً في حجرةِ ممتلئةِ بجدرانِ الصراعاتِ، يصطحبُ معَه ذيلَ التعاسةِ وأنيابَ التشردَ التي تحاول تمزيقه روحياً معَ ضوء خافت مِنْ الحياة، فهل بمقدوره صنع الإبداع؟
حينما نتحدثُ عن الإبداعِ فإنّنا نقصدُ تلكَ الثورة التي تزهر طاقة في أرض يائسة، ويقال إنّ المبدعَ يحرقُ روحَه بوقودِ المعاناةِ ليحلقُ في سماءِ الخيالِ، لكي ينيرُ العالمَ بنجمةِ إبداعِه، وربّما يكون الإبداعَ ناتجاً عن ألمِ جسدي أو نفسي الّذي يشكلُ له دواءَ بسيطاً يستصغرُ ألمه حتى ينفجرُ في سماءِ الإبداعِ لينطقُ قلمُه وينزفُ لنا بأمطارٍ غزيرةٍ مِن الكلماتِ.
تعدّ المواهبُ سواء أكانت الكتابة أم غيرها، هيَ المتنفسُ الوحيدُ للشخصِ المبدعِ بعد أيام عدّة مِن مخالطةِ البشرِ معَ كثيرٍ مِن الصراعاتِ، ولذلك اختارَ الكثيرُ مِن الكاتبينَ لحظةَ للوقوفِ على الهاوية، وسلكَ طريقاً تكون نهايته أما النجاحُ أو الاستسلام، ليصنعوا مِنها مجداً عظيماً، وهذا ما أكدتْه لنا الكاتبةُ إيزابيلُ الليدي في روايتِها (باولا)، وسُمِيتْ الروايةُ بهذا الاسمِ تيمماً بابنتها الشابةِ ذاتَ الثمانية و العشرين عاماً، إذ وافاها الأجل عام ( 1992م) بعد صراعاً طويلاً مع داء الفيرفيرين، فعلى الرغم مِن أنّ اسمَها قد نقشَ على الغلافِ إلا أنّها كانتْ غائبةً عنهُ.
احتضنَت روايةَ (باولا) تجربةً مأساويةً، فقد كانت منتصرةً على الألم وبفضلِهِ كانتْ إيزابيلُ تقاولَ موتَ ابنتها بالذكرى، ذكرتْ إيزابيلُ في مذكراتها قائلة “إنّ الكتابةَ هيَ الشيءُ الوحيدُ الذي ابقى عقلَها سليماً”، وشاركتْ القراءَ حياتها الشخصية، وكيف قضتْ أيامَها وهيَ بالقربِ مِنْ سريرِ ابنتِها في المشفى، فمعاناةُ ابنتُها معَ مرضها النادر وعدم تقبلها فكرة موتها كان له أثراً كبيراً في نفسيتِها كأمٍ، ولكنّها في عزِّ المعاناةِ نقشتْ ألمَها على ورقٍ استعادتْ فيه طفولتها وذكرياتها.
إيزابيل الليدي ليستْ الوحيدةُ التي جعلتْ سيرتَها الذاتيةَ راويةً، فيوجد كثير مِن الأدباءِ خطوا معاناتهم حروفاً داميةً ظلتْ عالقةً في الذاكرةِ، ولم تقتصرْ الرواية نقلَ الألمَ والأمراضَ فقط، فقد اتخذَ الكثيرُ مِن الكتّابِ مِن الكتابةِ متنفساً للراحةِ النفسيةِ؛ بسببِ هجماتٍ تمزقُ أرواحَهم سواء كانتْ مَن العالمِ الافتراضي أم الأجواء المنزلية؟، التي تكون المحطمَ النفسي الأولَ للإنسانِ المبدع، واتخذَ بعضُهم الكتابة للتحدثِ عن أكثر الموضوعات التي يُرفَضُ تداولُها في المجتمعِ، وإذ يمكن توصيل الفكرة التي تمتْ محاربتها.
مّما لا شك فيه إنّ الإبداعَ المنبثقُ مِن رحمِ المعاناةِ لا يقتصرُ على الكتابةِ فقط، بل يجمع المجالات المختلفة، وهنا نستحضر صاحب اعظم سمفونية موسيقية (بيتهوفن )، فعلى الرغم مِن معاناته مِن الصممِ، فقد عانى أيضاً مِن اضطرابٍ في ثنائية القطبِ الذي أظهرَ عليّه حزناً عميقاً وضحكاً هستيرياً غيرَ مبررِ، عاشَ بيتهوفن حياةً بائسةً لا تخلو مِن المعاناة، وكل هذا الصراع الملتهب في ثنايا الأفكارِ حوّلَه بيتهوفن نوراً أضاء به عالم النوتات إلى الأبدِ.
إنّ ثقافةَ الألمِ في حياةِ المبدعِ ماهيَ إلا انتفاضة الذات ضد مآسيه، واختزالها في قوة عليا تستقطبُ الأحاسيسَ لتنثُر بينَ الأيادي إبداعاً صادراً مِن ركامِ الجروح وطين الأنين والألم، فالألم عندي ما هو إلا آلة تمنحُ المبدعَ العزمَ و الإصرارَ بصورةِ جارحة. نحو ما قاله محمود درويش ” كلُّ كتابةٍ إبداعيةٍ نصرٌ صغيرٌ على الألم”